فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وأنّا مِنّا المسلمون ومِنّا القاسطون}
الجائرون على طريق الحق الذي هو الإيمان والطاعة يقال قسط الرجل إذا جار وأنشدوا.
قوم هم قتلوا ابن هند عنوة ** عمرا وهم قسطوا على النعمان

{فمنْ أسْلم فأُوْلئِك} الإشارة إلى من أسلم والجمع باعتبار المعنى {تحرّوْاْ} توخوا وقصدوا {رشدا} عظيما مبلغهم إلى الدار للثواب وقرأ الأعرج {رشدا} بضم الراء وسكون الشين.
{وأمّا القاسطون} الجائرون عن سنن الإسلام {فكانُواْ لِجهنّم حطبا} توقد بهم كما توقد بكفرة الإنس واستظهر أن {فمن أسلم} [الجن: 14] إلخ من كلام الجن وقال ابن عطية الوجه أن يكون مخاطبة من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ويؤيده ما بعد من الآيات وفي الكشاف زعم من لا يرى للجن ثوابا أن الله تعالى أوعد قاسطيهم وما وعد مسلميهم وكفى به وعدا أن قال سبحانه: {فأولئك تحروا رشدا} [الجن: 14] فذكر سبب الثواب والله عز وجل أعدل من أن يعاقب القاسط ولا يثيب الراشد وهو ظاهر في أنه من كلامه عز وجل وقوله تعالى: {وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ} إلخ معطوف قطعا على قوله سبحانه: {انه استمع} [الجن: 1] ولا يضر تقدم المعطوف على غيره على القول به لظهور الحال وعدم الالتباس وأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وقرأ الأعمش وابن وثاب بضم واو لو والمعنى وأوحي إليّ أن الشأن لو استقام الانس والجن أو كلاهما {على الطريقة} التي هي ملة الإسلام {لاسقيناهم مّاء غدقا} أي كثيرا وقرأ عاصم في رواية الأعمش بكسر الدال والمراد لوسعنا عليهم الرزق وتخصيص الماء الغدق بالذكر لأنه أصل المعاش وكثرته أصل السعة فقد قيل المال حيث الماء ولعزة وجوده بين العرب.
{لِنفْتِنهُمْ فِيهِ} أي لنختبرهم كيف يشكرونه أي لنعاملهم معاملة المختبر وقيل لو استقام الجن على الطريقة المثلى أي لو ثبت أبوهم الجان على ما كان عليه من عبادة الله تعالى وطاعته سبحانه ولم يتكبر عن السجود لآدم ولم يكفر وتبعه ولده على الإسلام لأنعمنا عليهم ووسعنا رزقهم لنختبرهم ويجوز على هذا رجوع الضمير إلى القاسطين وهو المروى عن ابن عباس وقتادة ومجاهد وابن جبير واعتبار المثلى قيل لأن التعريف للعهد والمعهود طريقة الجن المفضلة على غيرها وقيل لأن جعلها طريقة وما عداها ليس بطريقة يفهم منه كونها مفضلة وقيل المعنى أنه لو استقام الجن على طريقتهم وهي الكفر ولم يسلموا باستماع القرآن لوسعنا عليهم الرزق استدراجا لنوقعهم في الفتنة ونعذبهم في كفران النعمة وروي نحو هذا عن الضحاك والربيع بن أنس وزيد بن أسلم وأبي مجاز بيد أنهم أعادوا الضمير على {من أسلم} [الجن: 14] وقالوا أي لو كفر من أسلم من الناس لأسقيناهم إلخ وهو مخالف للظاهر لاستعمال الاستقامة على الطريق في الاستقامة على الكفر وكون النعمة المذكورة استدراجا من غير قرينة عليه مع أن قوله تعالى: {ولو أن أهل القرى أمنوا} [الأعراف: 96] إلخ يؤيد الأول وزعم الطيبي أن التذييل بقوله عز وجل: {ومن يُعْرِضْ عن ذِكْرِ ربّهِ} إلخ ينصر ما قيل قال لأنه توكيد لمضمون السابق من الوعيد أي لنستدرجهم فيتبعوا الشهوات التي هي موجبة للبطر والاعراض عن ذكر الله تعالى وفيه نظر والذكر مصدر مضاف لمفعوله تجوز به عن العبادة أو هو بمعنى التذكير مضاف لفاعله ويفسر بالموعظة وقال بعضهم المراد بالذكر الوحي أي ومن يعرض عن عبادة ربه تعالى أو عن موعظته سبحانه أو عن وحيه عز وجل {يسْلُكْهُ} مضمن معنى ندخله ولذا تعدى إلى المفعول الثاني أعني قوله تعالى: {عذابا صعدا} بنفسه دون في أو هو من باب الحذف والإيصال والصعد مصدر وصف به مبالغة أو تأويلا أي ندخله عذابا يعلوا المعذب ويغلبه وفسر بشاق يقال فلان في صعد من أمره أي في مشقة ومنه قول عمر رضي الله تعالى عنه ما تصعدني شيء كما تصعدني خطبة النكاح أي ما شق علي وكأنه إنما قال ذلك لأنه كان من عادتهم أن يذكروا جميع ما كان في الخاطب من الأوصاف الموروثة والمكتسبة فكان يشق عليه ارتجالا أو كان يشق أن يقول الصدق في وجه الخاطب وعشيرته وقيل إنما شق من الوجوه ونظر بعضهم إلى بعض وقال أبو سعيد الخدري وابن عباس صعد جبل في النار قال الخدري كلما وضعوا أيديهم عليه ذابت وقال عكرمة هو صخرة ملساء في جهنم يكلف صعودها فإذا انتهى إلى أعلاها جدر إلى جهنم فعلى هذا قال أبو حيان يجوز أن يكون بدلا من عذاب على حذف مضاف أي عذاب صعد ويجوز أن يكون مفعول نسلكه وعذابا مفعول من أجله وقرأ الكوفيون {يسلكه} بالياء وباقي السبعة بالنون وابن جندب بالنون من أسلك وبعض التابعين بالياء كذلك وهما لغتان سلك وأسلك قال الشاعر يصف جيشا مهزومين:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة ** شلا كما تطرد الجمالة الشردا

وقرأ قوم {صعدا} بضمتين وابن عباس والحسن بضم الصاد وفتح العين قال الحسن معناه لا راحة فيه.
{وأنّ المساجد لِلّهِ} عطف على {أنه استمع} فهو من جملة الموحى والظاهر أن المراد بالمساجد المواضع المعدة للصلاة والعبادة أبي وأوحي إليّ أن المساجد مختصة بالله تعالى شأنه {فلا تدْعُواْ} أي فلا تعبدوا فيها {مع الله أحدا} غيره سبحانه وقال الحسن المراد كل موضع سجد فيه من الأرض سواء أعد لذلك أم لا إذا لارض كلها مسجد لهذه الأمة وكأنه أخذ ذلك مما في الحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا» واشتهر أن هذا من خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم أي شريعته فيكون له ولأمته عليه الصلاة والسلام وكان من قبل إنما تباح لهم الصلاة في البيع والكنائس واستشكل بأن عيسى عليه السلام كان يكثر السياحة وغيره من الأنبياء عليهم السلام يسافرون فإذا لم تجز لهم الصلاة في غير ما ذكر لزم ترك الصلاة في كثير من الأوقات وهو بعيد لاسيما في الخضر عليه السلام ولذا قيل المخصوص كونها مسجدا وطهورا أي المجموع ويكفي في اختصاصه اختصاص التيمم وأجيب بأن المراد الاختصاص بالنسبة إلى الأمم السالفة دون أنبيائها عليهم السلام والخضر ان كان حيا اليوم فهو من هذه الأمة سواء كان نبيا أم لا لخبر لو كان موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي وحكمه قبله نبيا ظاهر والأمر فيه غير نبي سهل وقيل المراد بها المسجد الحرام أي الكعبة نفسها أو الحرم كله على ما قيل والجمع لأن كل ناحية منه مسجد له قبلة مخصوصة أو لأنه لما كان قبلة المساجد فإن كل قبلة متوجهة نحوه جعل كأنه جميع المساجد مجازا وقيل المراد هو وبيت المقدس فقد أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس لم يكن يوم نزلت {وأن المساجد لله} إلخ في الأرض مسجدا لا المسجد الحرام ومسجد أيليا بيت المقدس وأمر الجمع عليه أظهر منه على الأول لا أنه كالأول خلاف الظاهر وما ذكر لا يتم دليلا له وقال ابن عطاء وابن جبير والزجاج والفراء المراد بها الأعضاء السبعة التي يسجد عليها واحدها مسجد بفتح الجيم وهي القدمان والركبتان والكفان والوجه أي الجبهة والأنف وروي أن المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن علي بن موسى الكاظم رضي الله تعالى عنهم عن ذلك فأجاب بما ذكر وقيل السجدات على أن المسجد بفتح الجيم مصدر ميمي ونقل عن الخليل بن أحمد أن قوله تعالى: {وأن المساجد} بتقدير لام التعليل وهو متعلق بما بعد والمساجد بمعناها المعروف أي لأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا ولما لم تكن الفاء في جواب شرط محقق كانت في الحقيقة زائدة فلا يمتنع تقديم معمول ما بعدها عليها نعم قال غير واحد جيء بها لتضمن الكلام معنى الشرط والمعنى إن الله تعالى يحب أن يوحد ولا يشرك به أحد فإن لم يوحدوه في سائر المواضع فلا تدعوا معه أحدا في المساجد لأن المساجد له سبحانه مختصة به عز وجل فالاشراك فيها أقبح وأقبح ونظير هذا قوله تعالى: {لايلاف قريش أيلافهم رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا} [1-3] على وجه ولا يعد ذلك من الشرط المحقق ويندفع بما ذكر لزوم جعل الفاء لغوا لأنها للسببية ومعناها مستفاد من اللام المقدرة وقيل في دفعه أيضا أنها تأكيد للام أو زائدة جيء بها للاشعار بمعناها وأنها مقدرة والخطاب في تدعوا قيل للجن وأيد بما روي عن ابن جبير قال إن الجن قالوا يا رسول الله كيف نشهد الصلاة معك على نأينا عنك فنزلت الآية ليخاطبهم على معنى أن عبادتكم حيث كانت مقبولة إذا لم تشركوا فيها وقيل هو خطاب عام وعن قتادة كان اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله عز وجل فأمرنا أن نخلص لله تعالى الدعوة إذا دخلنا المساجد يعني بهذه الآية وعن ابن جريج بدل فأمرنا إلخ فأمرهم أن يوحدوه وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بذلك أيضا وقرأ كما في البحر ابن هرمز وطلحة {وإن المساجد} بكسر همزة إن وحمل ذلك على الاستئناف. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وأنّا مِنّا الْمُسْلِمُون ومِنّا الْقاسِطُون فمنْ أسْلم فأُولئِك تحرّوْا رشدا (14)}
قرأ الجمهور وأبو جعفر بكسر الهمزة.
وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص وخلف بفتحها وهو من قول الجن وهو عطف على المجرور بالباء.
والمقصود بالعطف قوله: {فمن أسلم فأولئك تحرّوْا رشدا} وما قبله توطئة له، أي أصبحنا بعد سماع القرآن {منا المسلمون}، أي الذين اتبعوا ما جاء به الإِسلام مما يليق بحالهم {ومنا القاسطون}، أي الكفارون المعرضون وهذا تفصيل لقولهم: {وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك} [الجن: 11] لأن فيه تصريحا بأن دون ذلك هو ضد الصلاح.
والظاهر أن من منتهى ما حكي عن الجن من المدركات التي عبر عنها بالقول وما عطف عليه.
الظاهر أن هذا خارج عن الكلام المحكي عن الجن، وأنه كلام من جانب الله تعالى لموعظة المشركين من الناس فهو في معنى التذييل.
وإنما قرن بالفاء لتفريعه على القصة لاستخلاص العبرة منها، فالتفريع تفريع كلام على كلام وليس تفريع معنى الكلام على معنى الكلام الذي قبله.
والتحري: طلب الحرا بفتحتين مقصورا واويّا، وهو الشيء الذي ينبغي أن يفعل، يقال: بالحرّي أن تفعل كذا، وأحْرى أن تفعل.
والرشد: الهدى والصواب، وتنوينه للتعظيم.
والمعنى: أن من آمن بالله فقد توخى سبب النجاة وما يحصل به الثواب لأن الرشد سبب ذلك.
والقاسط: اسم فاعل قسط من باب ضرب قسْطا بفتح القاف وقسوطا بضمها، أي جار فهو كالظلم يراد به ظلم المرء نفسه بالإِشراك.
وفي (الكشاف): أن الحجاج قال لسعيد بن جبير حين أراد قتله ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادِل، فقال القومُ: ما أحسن ما قال حسبوا أنه وصفه بالقِسط (بكسر القاف) والعدل، فقال الحجاج: يا جهلة إنه سمّاني ظالما مشركا وتلا لهم قوله تعالى: {وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا} وقوله تعالى: {ثم الذين كفروا بربّهم يعدلون} [الأنعام: 1] اهـ.
وشبه حلول الكافرين في جهنم بحلول الحطب في النار على طريقة التمليح والتحقير، أي هم لجهلهم كالحطب الذي لا يعقل كقوله تعالى: {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} [البقرة: 24].
وإقحام فعل (كانوا) لتحقيق مصيرهم إلى النّار حتى كأنهم كانوا كذلك من زمن مضى.
{وألّوِ اسْتقامُوا على الطّرِيقةِ لأسْقيْناهُمْ ماء غدقا (16)}
اتفق القراء العشرة على فتح همزة: {أن لو استقاموا}، فجملة {أن لوِ استقاموا} معطوفة على جملة {أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، والواو من الحكاية لا من المحكي، فمضمونها شأن ثانٍ مما أوحي إليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأمره الله أن يقوله للناس.
والتقدير: وأوحي إليّ أنه لو استقام القاسطون فأسلموا لما أصابهم الله بإمساك الغيث.
و{أن} مخففة من الثقيلة، وجيء بـ {أن} المفتوحة الهمزة لأن ما بعدها معمول لفعل {أوحي} [الجن: 1] فهو في تأويل المصدر، واسمها محذوف وهو ضمير الشأن وخبره {لو استقاموا} إلى آخر الجملة.
وسبك الكلام: أوحي إليّ إسقاءُ الله إياهم ماء في فرض استقامتهم.
وضمير {استقاموا} يجوز أن يعود إلى القاسطين بدون اعتبار القيد بأنهم من الجن وهو من عود الضمير إلى اللفظ مجردا عن ما صْدقِه كقولك: عندي درهم ونصفه، أي نصف درهم آخر.
ويجوز أن يكون عائدا إلى غير مذكور في الكلام ولكنه معروف من المقام إذ السورة مسوقة للتنبيه على عناد المشركين وطعنهم في القرآن، فضمير {استقاموا} عائد إلى المشركين، وذلك كثير في ضمائر الغيبة التي في القرآن، وكذلك أسماء الإِشارة كما تنبهنا إليه ونبهنا عليه، ولا يناسب أن يعاد على القاسطين من الجن إذ لا علاقة للجن بشرب الماء.
والاستقامة على الطريقة: استقامة السير في الطريق وهي السير على بصير بالطريق دون اعوجاج ولا اغترار ببنيات الطريق.
و{الطريقة}: الطريق: ولعلها خاصة بالطريق الواسع الواضح كما تقدم آنفا في قوله: {كُنّا طرائق قِددا} [الجن: 11].
والاستقامة على الطريقة تمثيل لهيئة المتصف بالسلوك الصالح والاعتقاد الحق بهيئة السائر سيرا مستقيما على طريقة، ولذلك فالتعريف في {الطريقة} للجنس لا للعهد.
وقوله: {لأسقيناهم ماء غدقا} وعد بجزاء على الاستقامة في الدّين جزاء حسنا في الدنيا يكون عنوانا على رضى الله تعالى وبشارة بثواب الآخرة قال تعالى: {من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون} [النحل: 97].
وفي هذا إنذار بأنه يوشك أن يمسك عنهم المطر فيقعوا في القحط والجوع وهو ما حدث عليهم بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ودعائه عليهم بسنين كسِنِي يوسف فإنه دعا بذلك في المدينة في القنوت كما في حديث (الصحيحين) عن أبي هريرة وقد بينا ذلك في سورة الدخان.
وقد كانوا يوم نزول هذه الآية في بحبوحة من العيش وفي نخيل وجنات فكان جعْل ترتُّببِ الإِسقاء على الاستقامة على الطريقة كما اقتضاه الشرط بحرف {لو} مشيرا إلى أن المراد: لأدمْنا عليهم الإِسقاء بالماء الغذق، وإلى أنهم ليسوا بسالكين سبيل الاستقامة فيوشك أن يُمسك عنهم الري ففي هذا إنذار بأنهم إن استمروا على اعوجاج الطريقة أمسك عنهم الماء.
وبذلك يتناسب التعليل بالإِفتان في قوله: {لنفتنهم فيه} مع الجملة السابقة إذ يكون تعليلا لما تضمنه معنى إدامة الإِسقاء فإنه تعليل للإِسقاء الموجود حين نزول الآية وليس تعليلا للإِسقاء المفروض في جواب {لو} لأن جواب {لو} منتففٍ فلا يصلح لأن يُعلل به، وإنما هم مفتونون بما هم فيه من النعمة فأراد الله أن يوقظ قلوبهم بأن استمرار النعمة عليهم فتنة لهم فلا تغرنهم.
فلام التعليل في قوله: {لنفتنهم فيه} ظرف مستقر في موضع الحال من {ماء غدقا} وهو الماء الجاري لهم في العيون ومن السماء تحت جناتهم وفي زروعهم فهي حال مقارنة.
وبهذا التفسير تزول الحيرة في استخلاص معنى الآية وتعليلها.
والغدق: بفتح الغين المعجمة وفتح الدال الماء الغزير الكثير.
وجملة {لِنفْتِنهم فيه} إدماج فهي معترضة بين جملة {وأن لو استقاموا على الطريقة} إلخ وبين جملة {ومن يعرض عن ذكر ربّه} إلخ.
ثم أكدت الكناية عن الإِنذار المأخوذة من قوله: {وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم} الآية، بصريح الإِنذار بقوله: {ومن يعرض عن ذكر ربّه نسلكه عذابا صعدا} أي فإن أعرضوا انقلب حالهم إلى العذاب فسلكنا بهم مسالك العذاب.
والسّلك: حقيقته الإِدخال، وفعله قاصر ومتعد، يقال: سلكه فسلك، قال الأعشى:
كما سلك السِّكيّ في الباب فيْتق

أي أدخل المِسمار في الباب نجّارٌ.
وتقدم عند قوله تعالى: {كذلك نسلكه في قلوب المجرمين} في سورة الحجر (12).
واستعمل السلك هنا في معنى شدة وقوع الفعل على طريق الاستعارة وهي استعارة عزيزة.
والمعنى: نعذبه عذابا لا مصرف عنه.
وانتصب {عذابا} على نزع الخافض وهو حرف الظرفية، وهي ظرفية مجازية تدل على أن العذاب إذا حلّ به يحيط به إحاطة الظرف بالمظروف.
والعدول عن الإِضمار إلى الإِظهار في قوله: {عن ذكر ربّه} دون أن يقول: عن ذكرنا، أو عن ذكري، لاقتضاء الحال الإِيماء إلى وجه بناء الخبر فإن المعرض عن ربّه الذي خلقه وأنشأه ودبره حقيق بأن يسلك عذابا صعدا.
والصّعد: الشاق الغالِبُ، وكأنه جاءٍ من مصدر صعد، كفرح إذا علا وارتفع، أي صعِد على مفعوله وغلبه، كما يقال: علاه بمعنى تمكن منه، {وأن لا تعلوا على الله} [الدخان: 19].
وقرأ الجمهور {نسلكه} بنون العظمة ففيه التفات.
وقرأه عاصم وحمزة والكسائي ويعقوب وخلف {يسلكه} بياء الغائب فالضمير المستتر يعود إلى ربّه.
{وأنّ الْمساجِد لِلّهِ فلا تدْعُوا مع اللّهِ أحدا (18)}
اتفق القراء العشرة على فتح الهمزة في {وأن المساجد لله} فهي معطوفة على مرفوع {أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن} [الجن: 1]، ومضمونها مما أوحي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأُمر بأن يقوله.
والمعنى: قل أوحي إليّ أن المساجد لله، فالمصدر المنسبك مع {أنّ} واسمها وخبرها نائب فاعل {أُوحي} [الجن: 1].
والتقدير: أوحي إليّ اختصاص المساجد بالله، أي بعبادته لأن بناءها إنما كان ليعبد الله فيها، وهي معالم التوحيد.
وعلى هذا الوجه حمل سيبويه الآية وتبعه أبو علي في (الحُجة).
وذهب الخليل أن الكلام على حذف لام جر قبل {أنّ}، فالمجرور مقدم على متعلّقه للاهتمام.
والتقدير: ولأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا.
واللام في قوله: {لله} للاستحقاق، أي الله مستحقها دون الأصنام والأوثان فمن وضع الأصنام في مساجد الله فقد اعتدى على الله.
والمقصود هنا هو المسجد الحرام لأن المشركين كانوا وضعوا فيه الأصنام والأنصاب وجعلوا الصنم (هُبل) على سطح الكعبة، قال تعالى: {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها} [البقرة: 114] يعني بذلك المشركين من قريش.
وهذا توبيخ للمشركين على اعتدائهم على حق الله وتصرفهم فيما ليس لهم أن يغيروه قال تعالى: {وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه} [الأنفال: 34]، وإنما عبر في هذه الآية وفي آية {ومن أظلم ممن منع مساجد الله} [البقرة: 114] بلفظ {مساجد} ليدخل الذين يفعلون مثل فعلهم معهم في هذا الوعيد ممن شاكلهم ممن غيّروا المساجد، أو لتعظيم المسجد الحرام، كما جُمع {رسلي} في قوله: {فكذبوا رسلي فكيف كان نكير} [سبأ: 45]، على تقدير أن يكون ضمير {كذبوا} عائدا إلى الذين كفروا في قوله: {وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلاّ سحر مبين} [سبأ: 43] أي كذبوا رسولي.
ومنه قوله تعالى: {وقوم نوح لما كذّبوا الرسل أغرقناهم} [الفرقان: 37] يريد نوحا، وهو أول رسول فهو المقصود بالجمع.
وفرع على اختصاص كون المساجد بالله النهي عن أن يدعوا مع الله أحدا، وهذا إلزام لهم بالتوحيد بطريق القول بالموجب لأنهم كانوا يزعمون أنهم أهل بيت الله فعبادتهم غير الله منافية لزعمهم ذلك. اهـ.